محمد جاد
المشهد الأول: رئيس الجمهورية المنتخب يتحدث فى خطابه بميدان التحرير عن نضال المصريين فى سبيل الديمقراطية، ويعلق على الأجواء الشمولية فى الحقبة الناصرية قائلا «وما أدراك ما الستينيات».
المشهد الثانى: مجموعة من الناشطين ينشرون صورة كاريكاتورية ساخرة تصور جمال عبدالناصر وكأنه يعلق على خطاب محمد مرسى «خلصتوا بيع مصانع الستينيات ولا لسه؟»، فى إشارة إلى نجاح الحقبة الناصرية فى إطلاق طاقات التصنيع بما ساهم فى توفير درجة عالية من الرفاهة لم تستطع أى من الحقب التالية تحقيقها.
المشهد الثالث: مجموعة من المواطنين لم يوفر لهم النظام الاقتصادى أى فرصة لكسب الرزق إلا من خلال بيع منتجات استهلاكية بهامش ربح ضئيل على الرصيف المواجه لمحطة القطار الرئيسية بالإسكندرية. وبالرغم من تفاؤلهم بوصول أول رئيس منتخب إلى السلطة إلا أن تصريحاته عن ضرورة إخلاء أسواق الباعة الجائلين أصابتهم بالصدمة، لذا كان تعليق أحدهم «عاوزين يقبضوا علينا.. ماشى، بس يأكلوا عيالنا».
فى ذكرى ثورة 23 يوليو، كان يجب أن نربط المشاهد الثلاثة ببعضها، ونثير التساؤلات حول كيفية تكرار نموذج رفاهة الستينيات فى أجواء يناير الديمقراطية.
يبدو محمد حسن وهو يروى قصته، كبطل أسطورة سيزيف الشهيرة الذى كلما دحرج حجرا ليحمله إلى قمة الجبل يسقط الحجر، فيعود سيزيف ليحمله إلى القمة بلا نهاية، «عمرى 54 سنة، وطول عمرى أبيع الملابس، لو راجعت كشوف أسماء البياعين اللى عملتلهم شرطة المرافق إزالة حتلاقى اسمى موجود من أيام السبعينيات»، لا يعرف حسن بديلا عن تلك المهنة التى تحقق له ربحا ضئيلا، 10 أو 20 جنيها فى اليوم، ولا تقدم له الدولة أى شكل من أشكال الإعانة أو السلع المدعمة، بينما يخوض معركة يومية لتحقيق الكفاية لأسرته المكونة من زوجة وثلاثة أبناء صغار.
«دخلى الشهرى حوالى 600 جنيه، 250 جنيه منها تذهب إلى إيجار الشقة، و50 جنيه مياه ونور، وحوالى 50 جنيه لمصاريف مواصلاتى اليومية فقط، دا غير مصاريف مدارس الأولاد، ساعات الفلوس تكفى وساعات متكفيش»، هكذا يروى حسن معاناته الشهرية.
الباعة المجاورون لحسن، على الرصيف المواجه لمحطة القطار بالاسكندرية، حكوا قصصا مشابهة لتلك الدائرة المفرغة من ضيق العيش وارتفاع الأسعار وملاحقة الشرطة، وربما يكون بعضهم أسوأ حالا منه، فأحدهم اضطر لجمع مصاريف العلاج من زملائه، وأخرى تظهر أطراف قدميها من تحت مائدة معروض عليها البضاعة ويحكى الباعة أنها نموذج لكثيرين ينامون بجوار البضاعة حتى يعثروا على مأوى لهم.
«احنا اللى تحت الفقر اللى مبارك سابه» يقول أحمد حتاتة بائع جائل على نفس الرصيف، معبرا بطريقة فطرية عن أن الضغوط الاقتصادية التى يعانيها هو وزملاؤه سببها الفشل الاقتصادى لنظام مبارك.
فبينما كانت فرصة العيش المتاحة لهؤلاء الباعة هى الاسترزاق بهوامش ربح متدنية من بيع سلع رخيصة، وكانت قطاعات أخرى من العمالة لا تجد سبيلا للعيش إلا بدخول منخفضة أيضا فى أنشطة كتوصيل الطلبات للمنازل، وخدمات النظافة فى الفنادق، كانت قطاعات اقتصادية تحقق درجة عالية من التشغيل وفرص العمل الكريمة تتراجع، ويأتى على رأسها التصنيع الذى انخفضت نسبته من اجمالى الاستثمارات العامة من 40% فى الفترة من 1967 ـ 1973 إلى 12.2% فى الفترة من 1997 ـ 2002، وبلغ نصيب الصناعات التحويلية فى الاستثمارات العامة فى العام المالى 2010 ـ 2011 حوالى 10.8%.
التصنيع سر رفاهة الستينيات
«استطاع النظام الناصرى أن يطلق طاقات التصنيع خاصة منذ موجة التأميمات الكبيرة عام 1961 التى كانت ناتجة عن عدم استجابة القطاع الخاص لخطة التنمية التى وضعتها الدولة. فقد انشأ فى تلك الفترة نحو 1000 مصنع جديد تضم صناعات ثقيلة مثل الحديد والصلب، وتكونت طبقة عاملة كبيرة مع نمو سنوى للصناعات التحويلية بنسبة 9%» تقول نادية رمسيس، أستاذة الاقتصاد السياسى بالجامعة الأمريكية، موضحة أن ما ساهم فى تحسين حياة قطاع كبير من المجتمع هو اهتمام الدولة بتوجيه السياسات فى مسار يجعل العمال يستفيدون من هذا النمو الاقتصادى الكبير.
«لا يوجد ما يعبر عن ذلك أفضل من مؤشر نسبة الاجور من الدخل القومى التى ارتفعت من 38% عام 1950 إلى 50% فى عام 1967 ـ 1968، أى أن العمال كانوا يقتسمون كعكة الاقتصاد مع أصحاب العمل النصف بالنصف»، كما تضيف رمسيس، بينما تدهورت هذه النسبة بمعدل النصف فى عام 2006/2007، لتصل نسبة الأجور إلى نحو 25.4% من الناتج المحلى.
«لقد شهدت التشريعات العمالية تقدما منذ عام 1905 وحققت طفرة فى الأربعينيات، وجاءت ثورة يوليو لتحافظ على تلك التشريعات وتزيد من امتيازات العمال، وفى نفس الوقت قامت بتطبيق سياسات تقدم الخدمات الأساسية بأسعار تخفف من الضغوط الاقتصادية، مما جعل قطاعا كبيرا من المجتمع آنذاك يعيش فى حالة من الرفاه»، يقول الحقوقى العمالى صابر بركات.
وخلال الستينيات كان الحد الأدنى لأجور العمالة 25 قرشا فى اليوم، ويصل إلى 40 قرشا لحملة المؤهل المتوسط و50 قرشا لأصحاب المؤهل العالى، وكانت الدولة فى ذلك الوقت تقدم سلعا اساسية مثل السكر بـ7 قروش للكيلو، ويصل أعلى سعر لكيلو اللحوم فى الجمعيات الاستهلاكية إلى 36 قرشا، وتوفر المواصلات بتعريفة، بل وتلزم جميع المصانع التى لا توجد مواصلات عامة قريبة منها بتوفير وسيلة نقل للعاملين، كما يضيف الحقوقى الذى عمل فى إحدى شركات الصلب خلال الستينيات.
ويشير بركات إلى أن أكثر ما كان يدعم رفاهة المواطنين فى فترة الستينيات هو التزام الدولة الصارم بتطبيق قوانين العمل مما يحافظ على الأجر الحقيقى للعامل، «كانت قاعدة عدم تخطى ساعات العمل سبع ساعات تطبق بمنتهى الصرامة، وكذلك توفير آليات الأمن الصناعى، وكانت الدولة آنذاك تلزم المصانع بتوفير الخدمات الصحية للعمال قبل تطبيق نظام التأمين الصحى عام 1969» أما الآن فإن «كبار رجال الاعمال يتعاملون مع الحقوق القانونية للعمال على أنها إرهاب وتطرف وخروج على القانون الذى وضعه رجال الأعمال بأيديهم»، بحسب وصف أحمد صلاح، القيادى النقابى بشركة كليوباترا، التى شهدت مؤخرا احتجاجات عمالية كبيرة.
التحرر الاقتصادى وتراجع العدالة الاجتماعية
ويعتبر بركات أن تدهور الحقوق العمالية بدأ مع تطبيق سياسات التحرر الاقتصادى «الدخول فى مرحلة الانفتاح الاقتصادى فتح الباب لانتشار فكرة خاطئة عن حقوق العمال وأنها تعطل جذب الاستثمارات الخاصة، ومع الاتجاه لسياسة الخصخصة لاحقا بدأت بعض الشركات العامة تسحب الامتيازات التى تقدمها للعاملين للتشجيع على تصفية الشركة، وتؤسس قطاعا خاصا جديدا على نظام عمل لا يراعى حقوق العمال فى كثير من الحالات، هذا فى الوقت الذى كان فيه أداء وزارة القوى العاملة فى مجال التفتيش على التزام أصحاب العمل بالقانون قد أصبح ضعيفا جدا».
ولم يساهم تراجع حقوق العمل فقط فى سحب بساط الرفاه الناصرى من تحت أقدام المواطنين، ولكن النظام الاقتصادى الذى اهتم بتحرير السوق جاء على حساب سياسات التنمية الاقتصادية التى تنعكس على معيشة المواطنين من جهة أخرى، كما أصبح أقل قدرة على السيطرة على الأسعار، وهو ما ساهم، وفقا لأستاذة الاقتصاد فى الجامعة الأمريكية، فى تخفيض الدخل الحقيقى للعامل من 70 دولارا عام 1980 إلى 11 دولارا عام 1991.
وترصد دراسة لمنتدى البحوث الاقتصادية أن مستويات الأجور الحقيقية للعمالة فى الفترة من 1988 إلى 1998، التى بدأ فيها تطبيق سياسات صندوق النقد الدولى فى التحرر الاقتصادى، تعرضت إلى «انخفاض حاد» مشيرة إلى أنه مع انسحاب القطاع العام فى تلك الفترة أصبح أكثر الاستثمارات الخاصة نشاطا يتركز فى مجالات كالقطاع المالى والاتصالات، بينما كان القطاع الصناعى صاحب «أكثر أداء مخيب للآمال». إلا أن الدراسة ذاتها تقدر أنه مع المضى قدما فى سياسات التحرر الاقتصادى عادت مستويات الأجور الحقيقية إلى الارتفاع لتصل عام 2006 إلى نفس مستوى عام 1988 تقريبا.
«لا أحد ينكر أن السياسات الاقتصادية المطبقة فى فترة التحرر الاقتصادى ساهمت فى توفير العديد من الوظائف، لكنها بالمقابل دفعت أيضا بكثير من العاملين لصفوف البطالة. كما أن الوظائف التى تم توفيرها خلال تلك الفترة اعتمدت فى كثير من الأحيان على قطاعات هشة كقطاع الخدمات الذى يشغل حاليا نحو 50% من العمالة.
لذا «بالرغم من تحقيق طفرات نمو اقتصادى كتلك التى حدثت خلال العقد الأول من القرن الجديد، فإن هذا النمو كان هشا مما جعل الاقتصاد يتأثر بشكل واضح مع نشوب الأزمة المالية العالمية، وتأثرت معه مستويات معيشة قطاع كبير من المواطنين» تقول رمسيس.
وتدلل دراسة لمنظمة العمل الدولية على صحة الرأى السابق، التى توضح مدى اعتماد سوق العمل المصرى فى مجال التشغيل على أنشطة اقتصادية كانت أكثر عرضة للتأثر بالأزمة المالية، حيث كان قطاعا المنسوجات والملابس والسياحة اللذان يتسمان بارتفاع معدلاتهما التشغيلية قد شهدا «عمليات تسريح كبيرة للعمالة» خلال الأزمة المالية.
وحتى بعيدا عن ظروف الأزمة المالية العالمية، التى تراجعت تأثيراتها على الاقتصاد المصرى فى الفترة الأخيرة، فإن قطاعى المنسوجات والسياحة، اللذين يتم الاعتماد عليهما بشكل كبير فى استيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل، لم يوفرا بالضرورة مستويات دخول للعمالة تضمن تحقيق الرفاه للعاملين فيهما. وبحسب دراسة لمنظمة العمل الدولية فإن قطاع المنسوجات والملابس فى مصر يقدم أقل مستويات للأجور فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقالت دراسة لمركز التضامن الأمريكى إن الأجور فى مناطق الكويز كانت تصل إلى 350 جنيها شهريا فى بعض الحالات.
فيما ترصد دراسة أخرى لمنظمة العمل الدولية أن متوسط أجر العمالة فى الفنادق الخاصة، التى تشغل نحو 98% من عمالة القطاع السياحى، تصل أسبوعيا إلى 175 جنيها، فى الوقت الذى يصل فيه متوسط الأجر الأسبوعى فى القطاع الخاص فى مصر إلى 214 جنيها.
ويكشف بحث التوظيف والأجور للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عن ضعف متوسطات الأجور الأسبوعية فى القطاع الخاص بصفة عامة، الذى يمثل نحو 60% من الاقتصاد، حيث بلغ فى محافظة القاهرة 190 جنيها، مقارنة بـ336 فى القطاع العام، ووصل إلى 99 جنيها فى بنى سويف مقارنة بـ255 جنيها فى القطاع العام بنفس المحافظة.
الرفاهة فى القرن الجديد
«قد لا نستطيع تكرار التجربة الناصرية اليوم فى قيام الدولة بتأسيس الصناعات التى تحقق هدفى التنمية والتشغيل، ولكننا فى حاجة إلى الدولة التى تؤسس صناعات ثقيلة تدعم القاعدة الصناعية فى مصر وتتوسع فى البنية الأساسية، إلى جانب تطبيق سياسات توجه الاستثمارات الخاصة لمجالات لها قيمة مضافة أكبر» كما تقول رمسيس، متحدثة عن السياسات التى تحتاجها ثورة يناير للاقتصاد من نموذج الرفاه الناصرى.
وإلى جانب دور الدولة فى إعادة هيكلة سياساتها الاقتصادية، فإن ضمان الرفاهة للمواطنين يرتبط بتطبيق سياسات اجتماعية، كتوفير تأمين للبطالة، بما يضمن عدم سقوط المواطنين فى الفقر خلال فترة الانتقال من مهنة إلى أخرى، كما يقول وزير القوى العاملة السابق، أحمد حسن البرعى.
من جهة أخرى فإن التزام الدولة بحماية حقوق العمل، وتطور الحركة النقابية للدفاع عن تلك الحقوق، ضمانة أخرى لتحقيق الرفاهة واستفادة القاعدة العريضة من المجتمع من ثمار النمو الاقتصادى، كما يضيف البرعى، «هناك العديد من الحقوق القانونية للعمال لا يتم الحصول فعليا عليها خاصة فى القطاع الخاص، لذلك يظل القطاع العام مكانا مغريا للعمل بالرغم من ضعف نسبة فرص العمل المتوافرة فيه».
الدولة التى لا تسمع صوت أبنائها
وتعبر تجربة أكثر من عام ونصف العام بعد ثورة يناير عن عدم الالتفات لحقوق العمل، حيث رصدت المنظمات الحقوقية اضطهاد عمال العديد من النقابات المؤسسة حديثا بفصل أعضاء مجلس النقابة تعسفيا من عملهم، إلى جانب عدم إقرار قانون للحريات النقابية حتى اليوم رغم تقديمه للجهات المعنية منذ نحو عام مضى.
وربما تكون تجربة الباعة الجائلين فى الاسكندرية مثالا على عدم إعطاء الدولة الاهتمام الكافى للسياسات التى تضمن تحقيق الرفاهة للعاملين، فبحسب أسامة أبوطالب، مدير العلاقات العامة باتحاد النقابات المستقلة، فإن نحو 3000 بائع جائل انضموا إلى النقابة الخاصة بهم التى تأسست فى الإسكندرية بعد الثورة، بهدف الحصول على تراخيص للعمل الرسمى تحميهم من بطش شرطة المرافق، وهم مستعدون لدفع الضرائب والتأمينات التى ستفرضها عليهم الدولة فى مقابل العمل بشكل رسمى والحصول على خدمات عامة كالتأمينات والمعاشات.
«لقد خاطبنا محافظ الاسكندرية عدة مرات، وطلبنا منه توفير أسواق بديلة، واقترحنا مناطق معينة مع التكفل بتطوير تلك المناطق على حساب الباعة بما يضمن أن يتم عرض السلع بطريقة حضارية، ولم تتم الاستجابة لنا حتى الآن».
وبينما كانت رسائل الباعة الجائلين تتوالى على محافظ الاسكندرية على مدار الأشهر الماضية، مذيلة بتعبيرات مثل «من أجل محاربة البطالة ومساعدة التائبين وأصحاب المؤهلات العليا والمتوسطة الذين لم يتم تعيينهم إلى الآن»، فوجئ الباعة بتهديدات الحكومة بإزالة أسواقهم العشوائية، دون تقديم البديل الذى يكفل لهم الإنفاق على أسرهم.. تلك القصة تقابلها حكايات يرويها عمال بسطاء من جيل الستينيات ضاقت بهم المعيشة فأرسلوا للرئيس شكوى وفوجئوا برأس الدولة يسمعهم ويهتم بشكواهم ويوفر لهم فرص العمل.