مع ثورة النت كاعلاميين لا نتحدث فقط ولكن ايضا نستمع باهتمام الى افكاركم فاهلا بتعليقاتكم ...مع ثورة النت نتحول كاعلاميين من متحدثين محترفين الى مستمعين محترفين اى الى باحثين فى تعليقاتكم عن كل ما يدفع الحياه الى الأمام...كلنا نحب ان يسمع الناس آراءنا...وهذه فرصه ذهبيه ليسمع الناس آراءك

الثلاثاء، ١٧ ربيع الأول ١٤٣٤ هـ

كيف تفهم ما يحدث فى مصر


تعميق الصراع السياسى.. أو الفوضى

ياسر علوي
  : الثلاثاء 29 يناير 2013 - 8:00 ص

حديث الفوضى هو سيد الموقف فى مصر. فلا يمر يوم بدون «خبير» يحذر من الفوضى، أو ينتقد الاحتجاجات والمظاهرات، وما تتضمنه من تحد غير مقبول لشرعية صناديق الاقتراع.

الأدهى، كما يخبرنا «الخبراء»، هو أن هذه الاحتجاجات تتزامن مع عزوف واضح من المواطنين عن ممارسة حقهم الانتخابى. فثلث الناخبين المسجلين فقط شاركوا فى الاستفتاء الأخير على الدستور، وهى أدنى نسبة مشاركة انتخابية منذ قيام الثورة. وحتى أعلى نسبة مشاركة انتخابية بعد الثورة، وكانت فى الانتخابات الرئاسية، لم تزد على 51 % من الناخبين المسجلين. يعنى ذلك أن المصريين لا يمارسون حقهم الانتخابى، ثم يملأون الشوارع بتحركات «فوضوية». هل يعقل هذا؟ ماذا يريد المصريون؟

يجيب «الخبراء» بأن المصريين يطلبون الاستقرار، ولا يهتمون بالسياسة، وجل مناهم أن «تدور العجلة». أما «الفوضى»، فهى من عمل «قلة» تريد «إفساد العرس الديمقراطى» وجر مصر لخراب محقق.

•••
ليس صعبا دحض هذه الإجابة. فحجم المظاهرات والإضرابات والاشتباكات يجعل من العبث وصفها بأنها من عمل «قلة مشاغبة ذات أجندات خارجية» (حسب التعبير الشهير لسلطة ما قبل الثورة، والذى يتبناه اليوم إعلام السلطة).

من ناحية ثانية، فإن الاحتجاجات الفئوية فى الأوساط المهنية والعمالية، هى أنشطة قد يحتقرها «الخبراء»، باعتبارها سلوكا «أنانيا» من فئات تسعى للدفاع عن مصالحها (أى لا تمارس السياسة كما يراها هؤلاء «الخبراء»، كنشاط خيرى منبت الصلة بمصالحها المباشرة وأحوالها المعيشية)، ولكنها فى كل الأحوال تعكس حراكا سياسيا صاخبا لا يتناسب مع الاتهام السخيف بأن المصريين غير مهتمين بالسياسة ولا يريدون سوى لقمة العيش (وكأن الصراع لتوفير رغيف العيش وتحسين شروطه ليس صراعا سياسيا!). وهو اتهام –مثله مثل اتهام الأجندة الخارجية- من إبداعات «خبراء لجنة السياسات» سيئة الذكر، الذى ورثه وتبناه بلا تحفظ «خبراء الموالاة» بعد الثورة.

وثالثا، فإن الإضرابات والمظاهرات، وحتى المصادمات والاشتباكات، تتم وفق منطق سياسى محدد، قد لا يعجب «خبراء الموالاة»، ولكن لا يمكن إنكار وجوده. فقضية الأجر هى القاسم المشترك لكل الاحتجاجات «الفئوية» على تنوعها.

قد يضرب عامل مثلا للحصول على حافز، أو «بدل وجبة»، وقد يضرب طبيب ابتغاء لضم الحوافز للأجر الأساسى.. إلخ، لكن كل هذه التحركات تظل تنويعات على قضية واحدة هى قضية الأجر، أى «العيش».

•••

أما عن الحالة الثأرية المخيفة، القائمة بين أعداد كبيرة من الشباب وبين جهاز الشرطة، فلا يمكن فصلها عن السجال المحتدم حول بقاء الذراع القمعية لنظام مبارك بدون تطهير أو إعادة هيكلة، وغياب القصاص العادل للشهداء.

هكذا، فإن الاشتباكات العنيفة التى تسببها هذه «الحالة الثأرية»، هى فى الحقيقة تنويعة على قضايا «العدالة الانتقالية» وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وهى مطالب أساسية لثورة يناير.

ليقل «خبراء الموالاة»، أو «عقلاء المعارضة»، ما يشاءون عن الإضرابات «الفئوية» أو المظاهرات، وليتساجلوا ما حلا لهم السجال حول شرعيتها وجدواها، لكن الأمر المؤكد أنها تعكس حراكا جماهيريا لا يمكن تجاهله، عنوانه الثلاثى هو «الأجر/ التطهير/ العدالة الانتقالية». ولما لم تستوعب «شرعية الصناديق» هذه الثلاثية، عبر الحراك عن نفسه خارج الأطر الرسمية. وهكذا ظهرت «الفوضى».

•••

وإذا كان بديهيا ألا يجد هذا الحراك نفسه فى خطاب وسياسات السلطة (وإلا لما عارضها)، فالسؤال هو: هل تستطيع المعارضة – بقيادة «جبهة الإنقاذ»– استيعابه؟ الإجابة حتى الآن يجب أن تكون بالنفى، فى ظل غياب العناوين الثلاثة لهذا الحراك، «الفوضوي» بحسب «الخبراء»، عن أولويات المعارضة.

لنأخذ مثلا قضية الأجر، والتى كان ممكنا أن تكون جوهر الصراع على الدستور، ومن ثم نقطة التقاء بين خطاب المعارضة ومتطلبات الحراك الشعبى.

فربط الأجر بالإنتاجية بدلا من الأسعار هو مبدأ استحدثه الدستور الجديد. وبموجب هذه البدعة التى لا سوابق لها فى دساتير مصر، لا يحق للمواطنين المطالبة برفع أجورهم لمواجهة الضغوط التضخمية التى يعانيها الاقتصاد (بعد التراجع السريع لسعر صرف الجنيه، أو بعد القرارات الحكومية برفع أسعار سلع أساسية)، إلا إذا تحققت طفرة إنتاجية مفاجئة خلال الأيام التالية مباشرة لارتفاع الأسعار، لكى تتيح لهم أن يطالبوا بزيادة أجورهم، ويتجنبوا الجوع!

لكن قضية الأجر لم تحتل أهمية كبيرة فى النقاش الذى دار حول الدستور الجديد (مقارنة مثلا ببنود الحريات الثقافية والشخصية). ماذا تفعل لو كنت مكان الجمهور الرازح تحت وطأة أجور لا تكفى وأسعار لا ترحم، عندما تجد أن قضيتك الأم غائبة عن سياسة السلطة وبرنامج المعارضة؟

ماذا تفعل عندما تجد أن «جبهة الإنقاذ» لم تصدر بيانا موحدا حول القرارات الحكومية الأخيرة برفع الأسعار؟

ماذا تفعل عندما تحاصر قضية «العيش» بين مطرقة سلطة ترفع الأسعار، وسندان معارضة لا تعتبر أن الأمر يستوجب صدور بيان بشأنه عن «جبهة الإنقاذ الوطنى»؟

ماذا تفعل لو كنت مكان أهالى شهداء، وضحايا عقود من القمع، عندما تجد أن البيان الذى أصدرته «جبهة الإنقاذ» قبل أيام قليلة، بمناسبة الذكرى الثالثة للثورة، وفى بداية استعدادها للانتخابات النيابية، قد خلا من أية إشارة لقضية «العدالة الانتقالية»، أو «إعادة هيكلة أجهزة الأمن»، ناهيك عن قضية «الأجر»؟

•••

أليس معقولا، والحال كذلك، أن تكون «الفوضى» التى يخشاها الجميع بحق، هى بالأساس عرض لمرض أعمق يعانى منه المجتمع المصرى اليوم، جوهره انفصال سياسات الحكم وبرامج المعارضة عن أولويات الحراك الجماهيرى؟

أليس مفهوما، والحال كذلك، أن يفضل قطاع واسع من المواطنين «فوضى» الحراك فى الشارع، على «شرعية» المفاضلة بين نخب «الموالاة» و»المعارضة» فى صندوق الانتخاب، أو أن تتزايد المظاهرات والاحتجاجات، بل والمصادمات والاشتباكات، بينما تتراجع المشاركة الانتخابية إلى أدنى مستوياتها منذ الثورة.

إن قضية تعميق الصراع السياسى، لكى لا يقتصر على عناوين «الدستور» و«الحريات الفردية والثقافية»، وإنما يضم أيضا أولويات «العيش» = «الأجر» والحرية = «ضبط ممارسات الأمن وإعادة هيكلته» والعدل = «القصاص والعدالة الانتقالية»، ليست مجرد استعادة ضرورية لترتيب الأولويات الذى حددته ثورة 25 يناير.

ثم إنها ليست أيضا مجرد ضرورة عملية لفريق سياسى يرتهن مستقبله بقدرته على جذب الكتلة الغاطسة (ثلثى الناخبين المسجلين والذين قاطعوا استفتاء الدستور)، ومن ثم فهى التى ستحدد ميزان القوى فى أى انتخابات مقبلة.

•••

المسألة فى الحقيقة قضية حياة أو موت. فالفوضى، بما هى تعبير عن مطالب جماهيرية ملحة، وكفر بقدرة النظام السياسى الرسمى ــ سلطة ومعارضة ــ على تلبيتها، لا يمكن أن تواجه بمناشدات أخلاقية توبخ الجماهير على «فوضويتها»، وتطلب منها أن تتخلى عن أولوياتها، وتنصاع لما يراه «العقلاء».

الحل الوحيد هو تعميق الصراع السياسى، ونقله من القشرة الخارجية (السجال الحقوقى والدستورى)، إلى صلب قضايا الصراع الاجتماعى التى حددها الحراك الجماهيرى. فهذا هو السبيل الوحيد لدمج حراك الجماهير فى اللعبة السياسية الرسمية وتجنب الفوضى.

الاختيار فى مصر اليوم ليس بين «الهدوء» أو «الفوضى». الاختيار هو بين صراع سياسى ذى بعد اجتماعى حاسم، وبين سفسطة نخبوية لا تعكس هموم الجماهير، ولا تبقى أمامهم سوى «الفوضى» وسيلة لتحقيق مطالبهم غير القابلة للمساومة أو التنازل. تعميق الصراع السياسى إذن أو الفوضى.. تلك هى المسألة

ليست هناك تعليقات: