كشف كنز من الوثائق تم العثور عليه في المجمع السكني الذي
كان يختبئ فيه أسامة بن لادن الكثير عن أفكاره والطرق التي كان يستخدمها،
بحسب ما كتبه بيتر بيرغن مستشار محطة «سي إن إن»، وأول صحافي غربي يلتقي
أسامة بن لادن في جبال تورا بورا عام 1997، ومؤلف كتاب «اصطياد رجل: عشر
سنوات من البحث عن بن لادن من 11/ 9 إلى أبوت آباد» الصادر منذ يومين، يقول
بيرغن: «لا توجد وسيلة أمام المؤرخين لتقييم فكر أسامة بن لادن والوضع
الحقيقي لتنظيم القاعدة كما رآه زعماؤه خلال الأعوام التي تلت أحداث الحادي
عشر من سبتمبر أفضل من ذلك (الكنز)، الذي يتضمن أكثر من ستة آلاف وثيقة
تمكن جنود البحرية الأميركية من العثور عليها سليمة أثناء الهجوم على مقر
إقامة بن لادن في مدينة أبوت آباد الباكستانية منذ عام».
وفي تلك الوثائق، نسمع بن لادن يتحدث بصوته، غير مدرك بالطبع أن أكثر
أفكاره خصوصية سوف تقع يوما في أيدي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية
«سي آي إيه». ويضيف بيرغن: ترسم الوثائق صورة لرجل شديد التدقيق في كل شيء،
ولكنه في نفس الوقت شخص حالم وخيالي في تصوره بأن التنظيم الذي يرأسه ما
زال يمكنه إجبار الولايات المتحدة على تغيير سياساتها الخارجية تجاه العالم
الإسلامي، فقط إذا تمكن من التخطيط لهجمة كبيرة أخرى داخل الولايات
المتحدة، وهو أمر كان بعض أتباعه يتشككون فيه كثيرا، في ظل تضاؤل ما يملكه
تنظيم القاعدة من إمكانات.
وفي إطار العرض لكتاب جديد يتناول عملية البحث عن بن لادن التي استغرقت
عشر سنوات بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، يقول بيرغن سمح لي كبار مسؤولي
الإدارة الأميركية بالاطلاع على مئات الصفحات من المذكرات التي تم رفع
السرية عنها، ولكنها لم تنشر بعد من ذلك الكنز الذي عثر عليه في أبوت آباد.
وقد اطلعت على مجموعة متنوعة من المذكرات التي كتبها بن لادن نفسه وكذلك
مذكرات كتبها أتباعه، سواء إليه أو إلى غيره.
وتصور تلك المذكرات صورة لتنظيم أدرك أنه في خطر كبير من الضربات التي
كانت الطائرات الأميركية دون طيار تشنها على مناطق القبائل في باكستان،
والتي نجحت منذ صيف عام 2008 في القضاء على الجزء الأكبر من قيادات
التنظيم. وفي 7 أغسطس (آب) 2010، كتب بن لادن إلى مختار أبو الزبير، زعيم
ميليشيات «حركة شباب المجاهدين» العنيفة في الصومال، يخبره فيها بأن الحركة
سوف تكون في وضع أفضل إذا لم تعلن صراحة أنها جزء من تنظيم القاعدة، ونصحه
بن لادن قائلا: «إذا سئلتم، فالأفضل أن تقولوا إنه توجد لكم علاقة مع
تنظيم القاعدة، هي مجرد صلات الأخوة الإسلامية لا أكثر».
وقال بن لادن لزعيم حركة الشباب إن الخلية التابعة لتنظيم القاعدة في
العراق قد اجتذبت الكثير من الأعداء بتبنيها لاسم «القاعدة»، مشيرا إلى أنه
سيكون من الأفضل، لدواع تمويلية، ألا تقدم حركة الشباب نفسها بصفتها جزءا
من تنظيم القاعدة، لأن رجال الأعمال في العالم العربي «الذين لديهم استعداد
لمد يد المساعدة إلى الإخوة في الصومال» سوف يزداد احتمال أن يفعلوا ذلك
إذا اقتنعوا بأنهم بذلك لا يدعمون تنظيم القاعدة بشكل مباشر.
كذلك، فقد نصح بن لادن أفراد حركة الشباب بعدم قتل المدنيين، كما كانوا
يفعلون حينها في المعارك التي دارت في منطقة سوق بكارة الحيوية في مقديشو
وما حولها، والتركيز بدلا من ذلك على شن الهجمات على قوات الاتحاد الأفريقي
أثناء مغادرتها أو وصولها من وإلى مطار مقديشو. وهذا الحرص من بن لادن على
سلامة المدنيين في مقديشو يعتبر مثيرا للسخرية إلى حد ما، وذلك بالنظر إلى
سجله السابق فيما يتعلق بإصدار أوامر قتل المدنيين.
وقد بلغ من تشوه سمعة تنظيم القاعدة أن بدأ بن لادن يفكر في تغيير اسم
التنظيم، حيث أشار في إحدى المذكرات الداخلية إلى أن الرئيس أوباما (يقول)
إن حربنا ليست ضد الإسلام أو المسلمين بل هي ضد تنظيم القاعدة. إذن لو كانت
كلمة القاعدة مشتقة من كلمة «الإسلام» أو «المسلمين» أو ترتبط بها ارتباطا
وثيقا، أو لو كانت تحمل اسم حزب إسلامي، لكان من الصعب على أوباما أن يقول
ذلك.
بل وذهب بن لادن إلى حد ترشيح بعض الأسماء الجديدة الممكنة لتنظيم
القاعدة، فقال: «هذه بعض الاقتراحات: جماعة التوحيد والجهاد، جماعة التوحيد
والدفاع عن الإسلام، جماعة إحياء الخلافة.. جماعة الوحدة الإسلامية».
لكن أيا من هذه الأسماء المقترحة لم يكن مثيرا للانتباه بما يكفي، ولم تقم الجماعة بتغيير اسمها.
وكان بن لادن ينصح أتباعه بعدم التحرك في أنحاء مناطق القبائل إلا في
الأيام الملبدة بالغيوم، حينما تصبح الأقمار الصناعية والطائرات الأميركية
دون طيار التي تراقب كل شبر في المنطقة محرومة من إمكانية الرؤية الجيدة.
وقد شكا من أن «الأميركيين لديهم خبرة تراكمية كبيرة في تصوير المنطقة،
نتيجة قيامهم بذلك لسنوات طويلة - بل ويمكنهم التعرف على المنازل التي
يتردد عليها الزوار من الذكور بمعدل أعلى من الطبيعي».
وحث بن لادن أتباعه على الرحيل إلى ولاية كونار الأفغانية النائية، التي
كان هو نفسه يختبئ فيها بعد هروبه من القوات الأميركية خلال معركة تورا
بورا شرقي أفغانستان، في ديسمبر (كانون الأول) 2001، موضحا أن «وعورة
تضاريسها وكثرة الجبال والأنهار والأشجار بها تجعلانها صالحة لاستيعاب مئات
الإخوة دون أن يتمكن العدو من تحديد مواقعهم».
وقد ظل بن لادن يحث أتباعه باستمرار على خوض الحرب المقدسة ومواصلة
العمليات، ولكن حينما كان الأمر يتعلق بأسرته، اتبع منهجا مختلفا تماما،
حيث أشار على ابنه حمزة البالغ من العمر 20 عاما بضرورة مغادرة مناطق
القبائل الباكستانية، حيث كانت الطائرات دون طيار تكثف هجماتها، من أجل
تلقي مزيد من التعليم الديني في دولة قطر، التي تصادف أن تكون أغنى بلد في
العالم من حيث دخل الفرد. وأضاف بن لادن أنه إذا اضطر ابناه الآخران، عثمان
ومحمد، في أي وقت إلى مغادرة إيران، حيث كانا يعيشان في منفاهما هناك،
فإنه ينصحهما أيضا بالبقاء بعيدا عن مناطق القبائل في باكستان (ولمح بن
لادن إلى أن أحد أبنائه، وهو لادن، كان قد سمح له بالفعل بالخروج من إيران
والذهاب إلى سوريا).
وبالنسبة لزعماء «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، الذين يتخذون من
اليمن مقرا لهم، فقد حثهم بن لادن على عدم قتل أبناء القبائل المحلية، وهو
تكتيك كان تنظيم القاعدة يستخدمه كثيرا في غرب العراق، مما أدى إلى إشعال
ثورة قبلية ضد التنظيم، بدأت في عام 2006، وشكلت ضربة قاصمة لحظوظ الجماعة
في العراق. ووعظهم بن لادن قائلا: «تعلموا من أخطائهم». وقد كتب زعماء
«القاعدة» إلى حكيم الله محسود، زعيم حركة طالبان باكستان، في 3 ديسمبر
(كانون الأول) 2010، منبهين عليه بضرورة تعليق حملة الهجمات التي كان يشنها
على المساجد والأسواق الباكستانية، التي قتل فيها المئات من المدنيين
الباكستانيين.
ورغم أن حركة طالبان باكستان هي تكتل مستقل من الجماعات المنتمية إلى
حركة طالبان، كان تنظيم القاعدة يسعى إلى السيطرة على تحركاتها التكتيكية
ومنعها من قتل المدنيين الباكستانيين، لأن ذلك كان يأتي بنتائج عكسية. لكن
هذا لا يعني أن زعماء «القاعدة» قد أصبح لديهم فجأة وازع إنساني، ففي جزء
من الخطاب الذي أرسلوه إلى محسود، قالوا له: «مرفق طيه قائمة قصيرة بما هو
مقبول وما هو غير مقبول بخصوص موضوع الاختطاف وتلقي الأموال. نرجو أن تنال
موافقتك وموافقة المجاهدين في باكستان». وفي عامه الأخير الذي قضاه معزولا
عن العالم، صار بن لادن شديد العناية بأدق التفاصيل، حيث نصح جماعته في
اليمن بأن يحرص أفرادها على ملء خزانات الوقود في سياراتهم وتناول ما يكفي
من الطعام قبل أن ينطلقوا على الطريق، كي لا يضطروا إلى التوقف في محطات
الوقود والمطاعم التي يراقبها جواسيس الحكومة. كما نصح جناح تنظيم القاعدة
في شمال أفريقيا بزرع الأشجار، حتى يمكنهم استخدامها لاحقا كغطاء
لعملياتهم. ولطالما كان بن لادن منضبطا وكتوما وكثير الشك في كل من حوله،
وكان ينبه على معاونيه بضرورة الحذر في أي اتصالات مع الصحافيين، فكتب
إليهم قائلا: «ضعوا في أذهانكم أن الصحافيين قد يكونون مراقبين رغما عنهم
بطريقة لا يدركونها، سواء على الأرض أو عن طريق الأقمار الصناعية».
م